وهم الزهايمر

وهم الزهايمر 







هي تدرك جيداً أنها تحب هذا المكان ، ولذلك تزوره كثيراً ، الجميع يعلم ذلك ، و لكن و في نفس الوقت لا أحد يعلم شيئاً عن تلك الزهور التي تصر و في كل مرة على أن تكون رفيق رحلتها.
استيقظت كعادتها تتراقص داخلها الحيوية والنشاط لتحتسي كوبها الدافئ من القهوة الداكنة مع قطعة الشوكولاتة ورائحة عطرها المميز  ، نظرت إلى ساعتها وقد أصبحت الثامنة تماماً ، بدّلت ملابسها بخفة وسعادة.
ذهبت لمحل الزهور المجاور لمنزلها لتجد باقتها بانتظارها ، أمسكتها بين يديها بلهفة وقد اتسعت عيناها فرحاً بألوان الأزهار المتناسقة.
أسرعت خطواتها نحو الباب لتبدأ مسيرتها اليومية بمقابلة أهم رجل في حياتها.
وصلت في الوقت المناسب للحديقة التي كانا يذهبان إليها كل صباح لتلعب وتمرح مع الأطفال آنذاك.
سرحت بخيالها قليلاً لينقطع شريط ذكرياتها بسماع صوت إمرأه تطلب منها الابتعاد لكي تنطلق ابنتها نحو الألعاب الرميلة.
وجدته جالساً على الكرسي وحيداً ، فرحت و أسرعت نحوه لترتمي بين ذراعيه وتقبل يديه اللتين أتعبتهما السنون و ترى شعره الأبيض الذي يكسو رأسه ليزداد قوةً و وقاراً ، التقت نظراتهما لتجد الاستفهامات قد ملأت عينيه الناعستين ، كتمت حزنها و وضعت يدها على خده الأيمن ليشعر بحرارة حبها له ثم قالت:
أنا طفلتك الوحيدة التي طالما اشتقت لرؤيتها والكلام معها ، أنا ملاكك الطاهر الذي كان يجول حولك في كل مكان تقصده ، توقفت عن الكلام عندما ابتعد عنها قائلاً:
ابنتي توفيت منذ سنوات ، تلعثمت و لم تستطع الرد ، وقفت وكأنها بناء يوشك على الانهيار ،  هطلت دموعها من دون سابق إنذار ، أصابتها الرجفة التي حطّمت كل نافذة أمل تريد أن تفتحها لتُضيء حياتها سعادة وأمان.
عادت إلى بيتها مُجهدة لتستلقي فوق سريرها وتحاول الانغماس في نومٍ عميق.
تذكرت ، صرخت ، تمالكت نفسها وتناولت دواءها ، تخدّر جسدها ابتداءً من قدميها حتى نهاية رأسها لتنعم بسكينة موحشة.
في اليوم التالي ، فتحت عينيها على صوت العصافير لترى أشعة الشمس وقد استعمرت كل زاوية في غرفتها ، استنشقت الهواء من أنفها لتجعله يسكن داخل رئتيها ثم تُخرجه بهدوء من فمها وقد حمل معه كل توتر أو تعب سكن أحشائها.
تذكرت الموعد المحدد ثم أسرعت لتبدل ملابسها وتستعد لمقابلته ، أخذت باقتها كالعادة ونظرات البائع تودعها بشفقة وحزن ، كل يوم تأخذ نفس الزهور لتعود بها آخر النهار وقد مُلئت بالخيبة والانكسار.
انتظرته على نفس الكرسي ، لكنه تأخر اليوم على غير عادته ، وبعد طول انتظار أقبل بعكّازه وخطواته البطيئة ليجدها تنظر إليه بابتسامتها العريضة وقد تلألأت عينيها فرحاً برؤيته ، لم يتحدث إليها لكن الفضول غلبه وانحنى باتجاهها قائلاً :
هل سأكون اليوم أيضاً والدك!!
رمقته بنظرة خجل وتعجب ثم قالت :

وهل عندك شكٌ في ذلك!!
تمتم بكلمات غير مفهومة لكنها لم تُبدِ أي اهتمام ، قدمت له الباقة فتردد بأخذها لأنه لا يعلم من هذه الفتاة وما سبب ملاحقتها له هكذا !!
نظرت نحو الألعاب و قالت :
كنت أتنقّل بينها كالفراشة و أنت تحرسني بعينيك من خلال هذا الكرسي حتى قفزت ذات مرة وأصيبت قدمي لتركض مسرعاً وتحملني نحو صدرك الدافئ ليتلاشى بكائي داخله ، تعجب من كلامها وكأنها تعرفه ، اقترب منها ثم قال : أعتقد بأنك مخطئه.
غضبت واحتقنت عيناها بالدموع لتنهار أمامه قائله:
كيف تقول ذلك وأنا ابنتك الوحيدة التي حفظت كل تفاصيل وجهك!!
وقف ثم قال : أخبرتك أكثر من مرة بأن ابنتي متوفيه.
لم تتحمل كلامه فانهارت وبدأت بالصراخ ، أسرعت نحوهما سيدة كانت تُمارس رياضة المشي ، أمسكت بالفتاة وهي تنظر نحو العجوز و كأنها تُريد معرفة السبب.
تنهّد قائلاً : لا أعرفها ولا أعلم ما الذي تريده مني ، كل يوم على نفس الحال!!
صرخت والدموع تغطي وجهها قائله :
أُقسِم بأنه والدي ولكنه يُنكِر ذلك ، تعاطفت معها السيدة ثم احتضنتها بقوة لتهدأ ونظراتها لم تُفارق الرجل ، وكأنها تقول : ما لخطب ؟ هل هو مريض أم لا يُريد الاعتراف بهذه البنت لسببٍ ما!!
ابتعد بخطوات غير متوازنة وقد غَرِقَ في التفكير ليجد نفسه أمام بيته ، فتح الباب ثم اتجه نحو الصندوق الخشبي الذي وضعه منذ سنوات داخل خزانته ليفتش عن ذكرياته القديمة فيه ، أخذ يتفقد كل صورة يجدها ثم أمسك بصورة ابنته حبيبة قلبه و فقيدة روحه التي شاء القدر أن تفارق الحياة و هي في مقتبل العمر فلم تحظَ بالوقت الكافي من اهتمامه بها ، شعر بالنُعاس و غفى على أريكته ليستيقظ مع شروق الشمس ، قرر الذهاب ليلتقي بذات الفتاة و يعرض عليها الصورة ليرى انطباعها ، وصل في الوقت المحدد ولكنه لم يجدها و بعد لحظات أتى صوت من خلفه قائلاً : هل تبحث عني؟
استدار ليراها وقد ازدادت جمالاً بابتسامتها الساحرة ، شعر بشيء غريب يسري في قلبه ، هل من الممكن أن تكون ابنته؟!
اقتربت منه و قالت :
هل تريد الجلوس لنتحدث قليلاً؟! لم يعارض لكنه كان قلقاً ، بدأ كلامه بسؤال حاد :
ألديكِ أي شيء يثبت أني والدك؟ 
نظرت للصورة التي بين يديه وهمست :
فلتقارن بين ملامحي في صغري والآن ، وضع الصورة بجانب وجهها وأخذ يتفحص كل شيء فيها ليجد أنها طبق الأصل مع اختلاف بسيط لا يُذكر.
فتح ذراعيه ليحظى كل منهما باللحظة التي طال انتظارها ، سكنت أنفاسهما عن الثوران واستقرّت مشاعرهما عن الدوران لينعما بالراحة والاستقرار ، طلب منها عدم التخلي عنه مرةً أخرى وأكدت له بأنها لم تدعه لحظةً واحدة ولكنه في كل مرة لا يتذكرها تعود من نقطة البداية ، شعر بالانكسار وعرف أنه مُصاب بداء  (الزهايمر) الذي يجعله كالطفل حديث الولادة لا يتذكر شيئاً سوى اللحظات الآنية.
جلست على الأرض و وضعت يديها على ركبتيه ووعدته بأنها لن تتركه مهما حصل وأن تكون معه كظله في كل مكان لتعتني به وتحميه من هذا المرض الذي يجعله كالتائه وسط الظلام ، ابتسم و أمسك بيديها بقوةٍ و إحكام و كأنه خائف من الضياع ، سارت معه نحو بيته لتطمئن عليه وأخبرته بأنها ستأتي بأمتعتها وأغراضها ليجتمع شملهما من جديد.
كانت أجمل ليلة في حياته ، نام على الفور ليستيقظ باكراً وينتظرها بفارغ الصبر لكنها تأخرت.
ذهب مسرعاً نحو الحديقة ليجدها خاوية ، ترقب قدومها لساعات ، شعر بالفراغ ، لمح تلك السيدة التي تدخلت بينهما قبل أيام ، اتجه نحوها ليسألها عن عنوان ابنته ، ابتسمت و أخبرته بالوصف تماماً ، هرول نحو الطريق حتى وقف أمام بيتها وكأنه طفل يبحث عن أي أحد يعرفه.
طرق الباب بقوة ، طال انتظاره لينفتح فجأة ولكنها ليست هي لقد كانت سيدة تكبرها سناً وقد اعتلى وجهها الحزن ، سألها عن ابنته لكنها تعجبت وقالت:
هذه ابنتي ، أنا والدتها.
شعر بالدوار : يا إلهي هل هذه زوجتي أيضاً !؟
نظرت إليه السيدة ثم وضعت يديها على وجهها لتواري دموعها التي ستنفجر في أي لحظة ، طلبت منه الدخول لتفسير كل هذه التطورات ، جلس وهو ينظر إليها لعله يسمع ما يثلج صدره من حرارة الصدمة التي بإنتظارة ، انكسر صمتهما بقولها :
هل صدقتها ؟
رد على الفور : أصدق من ؟
تنفست بجهد ثم قالت :
ابنتي تعاني من مرض نفسي يسمى (الوهم) وذلك بسبب وفاة والدها قبل عشر سنوات ، لم تستوعب الخبر لأنها لم ترَ جثته فقد مات نتيجة حريق هائل في المصنع الذي يعمل به ، و يبدو أنها وجدت فيك مواصفات والدها الذي تركها وحيدة دون وداع فجعلتك تتوهم بأنك مريض ، ولا تذكرها حتى تنعم بحنان الأب الذي طالما حلمت به.
أغمض عينيه ليستوعب ما حصل ، شعر بالحزن على حالها و بالخيبة على حاله ، خرج ولم يسأل حتى عن اسم الفتاة التي أوهمته بأنها ابنته ، ليعود مجدداً الأب الوحيد الذي يتذكر صغيرته كل يوم.



تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -