عقم بلا سبب

 عقم بلا سبب







الندم لعبة قديمة، أو حيلة قديمة نحتال بها على (الضحية) أو على أنفسنا، لنخبر الجميع أننا "الأفضل". نعم، تلك هي الحقيقة. حين يبدأ "الندم"، تتوقف المحاسبة.
لم أعد أميل لاستخدام تلك اللعبة ولم أعد أركن إليها.
جاء اليوم المُنتظر وكانت تتفقد كل تفاصيل قاعتها الصغيرة لتكون ليلة مُميزة وأنيقة ، نظرت إلى فستان زفافها بلهفة وفخر وأخيراً سوف ترتبط بالشخص الذي حلمت أن تكون نصفه الآخر ، قُطِعت سكينتها بيد وُضِعت فوق كتفها وهنا شعرت بحزن وفرح والدها ، نظر إلى عينيها بنظرات كسرت قلبها ثم ابتسمت وقالت: ما الذي يُحزِنك يا أبي؟؟
أمسك بيديها وأجلسها أمامه قائلاً:
جاء الوقت الذي لابد أن أبوح لكِ بشيء أخفيته عنك طوال حياتك ، اتسعت عيناها من شدة الحيرة وهي تنتظر ، استجمع قواه وأخبرها بأنها مُصابة بداء (الصرع) منذ ولادتها وكان يعطيها الدواء المخصص كل يوم على أنه فيتامين مقوي لجسدها.
تحولت فرحتها إلى كآبة وجلست في حيرة قاتلة ونظرت إليه قائلة: والآن ما الحل؟
اقترح عليها أن يبقى هذا سراً بينهما لكي لا يتراجع زوجها عن الارتباط بها بسبب مرضها ، تقبلت الفكرة نوعاً ما لكنها شعرت بالشفقة على حبيبها الذي لا يعلم بما ينتظره معها ، نظرت إلى والدها وهي تترقب أي حل يجعلها تعيش حياة مستقرة وهانئة دون كدر ، أمسك يديها وجلس على ركبتيه ونظر إلى عينيها برحمة وقال:
لا أستطيع أن أعطيك الدواء كي لا يتراجع زوجك عن قراره لكن اقترح عليك أن آتي إلى منزلك كل مساء وأعطيك الجرعة دون علمه وبذلك لن يشعر بأي شيء مطلقاً ، ابتسمت وشعرت بأن نافذة الأمل فُتحت من جديد ووافقت على الفور وقَبّلَت والدها بحرارة وامتنان ، مسح على رأسها وطلب منها الاستعداد ، تنفست بضيق وأخفت دموعها كي لا يُلاحظها أحد ، طلبت من صديقتها بأن ترتب لها شعرها وتساعدها باللمسات الأخيرة قبل دخول وقت الزفة.
فُتِحت أبواب القاعة وأقبلت بفستانها الأبيض الفاخر كأنها لوحة رُسِمت بإتقان ، وقف والدها أمامها ومعه علبة سوداء كبيرة وطلب منها أن تتنبأ عما بداخلها ، تلعثمت ولم تجد ما تقوله ، فتحها بيديه التي أصابهما الارتباك وعينيها تترقب بلهفة وفضول.
لقد كان عقد زفاف والدتها المرصّع باللؤلؤ والألماس ، اختلطت في داخلها المشاعر ولم تَعُد قادرة على إظهار أي ردة فِعل تجاه هذا الموقف الصعب.
غياب والدتها عن حياتها منذ صغرها لم يكن بالأمر السهل ، توفيت فلم يبقى منها سوى الذكريات البسيطة التي كانت كالحُلم بالنسبة لها لصغر سنها وعدم اكتفائها من وجودها بجانبها.
وضعه حول عنقها وهو يتذكر منظره على زوجته الراحلة ، انقطع الصمت بينهما بصوت الموسيقى الذي يذكرهما ببدء المسيرة نحو زوج المستقبل ، نظر إليه وقد حان الوقت لكي يأخذ قطعة من قلبه ويحافظ عليها ، اقترب منه وهو يضع يديهما معاً وهمس قائلاً:
يا بني هذه الأمانة لطالما حافظت عليها فالآن حان الوقت لكي تحملها على عاتقك وسوف أُحاسبك عنها يوم القيامة ، شعر الزوج بالخوف والرهبة من قسوة الكلمات لكنه سرعان ما نسي كل شيء بمجرد النظر إلى عينيها الجميلتين والشعور برجفة وبرودة يديها بين يديه.
بدأ الأب يتردد عليها كل يوم بالموعد المحدد في غياب زوجها لإعطائها الدواء دون كلل أو تعب ، وفي كل مرة تودع والدها تشعر بالخوف مما سينتظرها مستقبلاً.
مرت السنون وهي على نفس الوضع.
سألها زوجها ذات يوم عن عدم حملها حتى الآن وقد مر على زواجهما ثلاث سنوات ، لم تجد الإجابة على السؤال و وعدته بأنها سوف تُنسِّق موعِداً مع طبيبتها لكي تتأكد من وضعها.
أخبرت والدها بذلك وذكر لها أن مرضى الصرع قد لا يستطيعون الإنجاب وطمأنها بأنه يعرف طبيبة خارج البلاد وسوف يرسل لها استشارة بذلك.
كل يوم تنتظر رد والدها وهو يخبرها بأنه ينتظر الرد مثلها.
دخل عليها ذات يوم والحزن يكسو وجهه ، طلبت منه الجلوس وأحضرت له العصير وهي تترقب أي كلمة لكي يهدأ روعها ويطمئن قلبها.
سألته بصوت خافت: ماذا بك يا أبي؟!
أخبرها بأن الطبيبة أرسلت إيميلاً صباح اليوم وقد كتبت فيه بأن دواء الصرع الذي تأخذه يسبب عُقم على المدى البعيد وهي تتناوله من عمر الخامسة ، فالنتيجة أنها غير قادرة على الإنجاب نهائياً إلا بقدرة الله عز وجل.
تحطّمت داخلها كل فرحة حَلُمَت بها ، كسقوط وعاء زجاجي مليء بالأزهار وتناثر قطعه في كل الأرجاء فلا تستطيع أن تجمعها دون التضرر من الشظايا والحل الوحيد هو التخلص من هذه الفوضى كلها في سلة المهملات.
هكذا قررت أن تبدأ حياتها بنسيان أي شيء يخص الحمل والأطفال وأصبحت تستخدم لغة (الإيحاء) مع زوجها بأن الإنجاب مسؤولية وارتباط حتى تأقلم معها وعاشا حياة سعيدة.
في تمام الساعة الواحدة ليلاً من أحد الأيام مَرِضَ والدها وأُدخِل المستشفى نتيجة ارتفاع في ضغط الدم وكانت تُلازِمه ليلاً ونهاراً حتى خرج وقد أُصيب بشلل نصفي نتيجة جلطة في الدماغ لِكَبَر سِنّه الذي شارف على السبعين عاماً.
شعرت بالتعب من البقاء مع والدها وطلبت من زوجها أن يبحثا عن ممرضة تتناوب معها عليه لكي لا يبقى وحيداً دون رعاية ، تذكرت دوائها وأنها لم تتناوله طوال الأسبوع السابق ، قررت أن تأخذه وهي في بيت والدها.
بعد مرور عدة أيام نفذت الكمية بحثت عنه في كل مكان ولكنها لم تجد شيئاً ، ذهبت للصيدلية الموجودة في نهاية الشارع لكي تأخذ منه كمية كبيرة حتى لا تضطر أن تخرج كل فترة لشرائه.
وقفت أمام البائع وهي لا تعلم ما هو اسم الدواء لكنها تحتفظ بآخر حبة منه في حقيبتها ، وضعتها على الطاولة وقالت:
من فضلك أريد مثل هذا الدواء وهو خاص لمرضى الصرع.
أخبرها بأنه لابد أن يفحص العينة لكي يعرفه ، وضعها في جهاز خاص لتحليل المكونات وهو ينتظر النتيجة ، نظر إليها باندهاش قائلاً:
هل راجعتي الطبيب لتحصلي على الوصفة الطبية لهذا الدواء؟!
أجابته بأنها مُصابة منذ صغرها ولم تزر طبيباً مختصاً بمرضها قط ، وأن والدها هو من كان يوفر لها الدواء.
وقف أمامها والتساؤلات واضحة على ملامحه وقال:
أريد أن أخبرك بأن مرضى الصرع لا تُصرف لهم الأدوية إلا بورقة وهذه الحبة التي قمت بفحصها لم تكن سوى دواءً لمنع الحمل.
لم تستوعب كلامه وسقطت دون وعي على الأرض لتجد نفسها في قسم الطوارئ وزوجها في حاله يرثى لها ، طلبت منه أن يصطحبها إلى والدها لكي يجيبها على كل التساؤلات التي تزاحمت بداخل رأسها.
فتحت باب منزله لتجد الممرضة جالسه بجانبه ، طلبت منها الخروج واستأذنت من زوجها بأن يذهب للبيت كي لا تشعر بالإحراج أمامه ، همس في أذنها وأخبرها بأن الصيدلي أخبره بكل شيء ، لكنها أصرّت على كلامها فتركها وذهب.
نظرت إلى والدها وقد تهالكت قواها وصرخت بحرقة:
لماذا؟؟؟
تفاجأ من تصرفها وبدأ يتلعثم بالكلام لكي يعرف سبب غضبها !!
أصبحت في عمر الخامسة والأربعون وقد تقلصت فرص الحمل في هذه المرحلة ، كانت كالمسافر الذي يقف أمام آخر رحلة للقطار وقد تحرك مسرعاً من أمامه دون عودة.
أخبرته بأنها غير مصابة بأي مرض وأن الدواء المشؤوم كان فقط لمنعها من الانجاب لأسباب غير معروفة ، نظر إليها وقد امتلأت عيناه بالدموع وشعر بالندم والانكسار  على حالها ، طلب منها الاقتراب لكي يتحدث معها ويجيب على أسئلتها التي سجنتها داخل صدرها رحمةً بحاله ، جلست بجانبه وقد أصابها الخوف وكأنها لا تعرفه بتاتاً ، قال لها بكلمات تكاد تُسمع: كنت خائفاً أن تتزوجي وتنجبي أطفالاً فتتركيني دون اهتمام ، كل شخص تعلّقت به تركني وحيداً سواءً بسبب الموت أو السفر أو مشاغل الحياة.
ظهرت عليه علامات الندم والشفقة على حالها وقد حطّم كل شيء جميل في حياتها.
رقّ قلبها عليه ولكنها مازالت تشعر بالإحراج من تصرفه هذا وبدأت تتذكر زوجها وكمية الصدمة التي سيشعر بها عند معرفته.
قررت أن تُرسِلَ إليه برغبتها بالانفصال بسبب مرض والدها وعدم قدرتها على الاستمرار معه ، اتصل عليها فوراً لكنها رفضت أن تُجيب وعقدت العزم بأن تنتقل مع والدها إلى الريف لكي تبتعد عن كل الذكريات التي قد تجعلها تعود أدراجها يوماً ما.
فأصبح (الندم) في قاموسها كالسيف القاتل الذي يقضي على الضحية ويجعل الجاني بريئاً أمام الجميع..  


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -